بعد طرد السفير الإماراتي.. من يستفرد بالقرار الخارجي في الجزائر؟
يبدو أن هناك حالة من الارتباك الشديد تسود علاقة مؤسسات الدولة الجزائرية بالإعلام، فما نشرته جريدة «النهار» الجزائرية والتداعيات التي أعقبتها، يؤشر على ذلك، وربما أكثر من مجرد انفلات أذرع إعلامية شديدة الصلة بمؤسسات الدولة.
الحدث بدأ مع نشر النهار الجزائرية خبرا عن إمهال السفير الإماراتي 48 ساعة لمغادرة الجزائر إلى بلاده، وذلك على خلفية الكشف عن أربعة جواسيس إماراتيين-حسب ما نشرته الصحيفة ـ لحساب الموساد الإسرائيلي، حيث أورد الخبر أن وزارة الخارجية عبرت عن أسفها لهذه التصرفات «الخاطئة» و«المخططات الدنيئة» التي تستهدف الجزائر.
الجزائر رسميا كذبت الخبر، وأصدرت خارجيتها في بيان نشرته الثلاثاء الماضي تكذب الأخبار التي تفيد بإمهال السفير الإماراتي 48 ساعة للمغادرة قبل طرده، وتعتبرها مجرد أخبار «مغلوطة وكاذبة ومزيفة ولا أساس لها من الصحة» مشددة على أن بياناتها هي المصدر الوحيد للمعلومة الصحيحة.
بلاغ الخارجية الجزائرية حرص على التأكيد على متانة وصلابة العلاقات الثنائية الجزائرية الإماراتية.
الرئيس عبد المجيد تبون، في اليوم ذاته، وبعد ساعات قليلة عن نشر الخبر في «النهار» أصدر قرارا بإعفاء وزير الإعلام محمد بوسليماني، وتعيين الأمينة العامة لوزارة الاتصال بتسيير شؤون الوزارة بالنيابة، دون الإشارة إلى سبب الإقالة.
هذه التطورات المتسارعة، تكشف في الجوهر عن ارتباك مؤسساتي إزاء تحد أمني، لم يتم تأكيده ولا نفيه، فالهم الأكبر الذي كان يحكم بيان الخارجية الجزائرية هو احتواء الموقف، ومنع حدوث أزمة علاقات مع دولة الإمارات العربية المتحدة، ولذلك، لم يأت بيانها بشكل صريح على نفي خبر اعتقال خلية إماراتية ذكرت جريدة النهار ضلوعها في التجسس والتخابر لفائدة الموساد الإسرائيلي مع أن لهذا الشق أهمية كبيرة في تصور حجم المخاطر الأمنية والخارجية التي تحدق بالجزائر، وإنما تم التركيز على الشق المتعلق بالسفير الإماراتي، بما يعني وجود تخوف من أن يؤدي نشر الخبر إلى تأزيم العلاقات مع الإمارات، ولذلك جاء في نص بيان الخارجية التأكيد على متانة وصلابة العلاقات الجزائرية والإماراتية.
القرار السريع بإقالة وزير الإعلام، يشي في الظاهر، بتحميله مسؤولية هذا الخطأ الشنيع، الذي يعرض العلاقات الجزائرية الإماراتية للاهتزاز، وأن المسؤولية لا تقع بالمطلق على أي مؤسسة من مؤسسات الدولة، بما في ذلك، التي يفترض أنها سربت الخبر لمؤسسة إعلامية جد قريبة من الدولة، لكن، في الجوهر، يصعب التصديق أن يكون الأمر مجرد خطأ مهني، فخبر بهذه الحساسية، يصعب على صحافي مبتدئ أن يمرره، فضلا عن مؤسسة تعتبر من أذرع الدولة الإعلامية، وتحتفظ بتقاليد راسخة في تدبير العلاقة مع مؤسسات الدولة.
المثير في الحدث أن نص الخبر المنشور بالنهار الجزائرية، يقحم الخارجية الجزائرية في الموضوع، ويذكر موقفها إزاء الاستهداف الأمني الذي تعرضت له الجزائر، فيذكر أسفها عن هذه التصرفات الخاطئة (يقصد الصادرة من دولة صديقة) والمخططات الدنيئة (يقصد الموجهة من قبل الكيان الصهيوني) وهو ما يفيد بأن الجهة التي سربت الخبر، أرادت أن توحي بأن مصدر ذلك هو وزارة الخارجية، لا من جهة أخرى، في حين جاء الرد من قبل الخارجية الجزائرية، للحديث عن أن بياناتها تمثل المصدر الوحيد لاستقاء المعلومات في مثل هذا الموضوع، بما يعني من جهة، نفي مسؤوليتها عن نشر الخبر، ومن جهة ثانية، تحذير المؤسسات الإعلامية من نشر أخبار تعرض العلاقات الخارجية للجزائر للخطر، دون أن تكون هي مصدر المعلومات.
صحيح أن سؤال الصحافي والإعلامي، هو مصدر تسريب الخبر، والخلفية التي تحكم ذلك، لكن السؤال الأكثر أهمية من ذلك، هو دلالة كل ذلك، وهل يعني ذلك أن الجزائر في هذه اللحظة الحرجة، غير قادرة على ضبط قرارها الخارجي، وأن ثمة أكثر من متدخل في رسم سياستها الخارجية؟ وأن مثل هذه الصدمة، تكشف الحاجة الشديدة إلى توافق مؤسسات الدولة حول الخط الذي ينبغي أن تسلكه السياسة الخارجية الجزائرية للجواب عن التحديات التي تواجهها؟
قبل أسبوع، وقبل ثلاثة أيام من نشر الخبر في جريدة النهار، أبانت تصريحات الرئيس الجزائري عند لقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن التحديات الكبيرة التي تواجهها السياسة الخارجية الجزائرية، وعن تطلعاتها من أجل تملك جواب يحصن اختياراتها «المستقلة» في إدارة علاقاتها بمحيطها الدولي والإقليمي، فكشف عن وجود ضغوط غربية على الجزائر، في الوقت الذي كانت الجزائر دائما ما تنفي ذلك، وطلب حماية موسكو ودعمها، وعبر عن رغبة الجزائر الانضمام إلى منظمة «البريكس» معتبرا ذلك جزءا من الرهانات لحماية اختياراتها المستقلة في إدارة سياستها الخارجية.
عمليا، تمر الجزائر من فترة حرجة، فباستثناء إيطاليا التي تربطها بها علاقة إيجابية، تعرف علاقتها بمدريد قمة توترها، ولم تنجح إلى الآن في تحصين علاقتها مع باريس، وفضلت أن تصعد الموقف معها بعد تأجيل زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إليها.
في جوارها الإقليمي، تبدو الجزائر شبه محاصرة، فجميع حدودها مفتوحة على تحديات كبيرة، فحدودها مع المغرب مقفلة بقرار جزائري على خلفية أزمة دهرية لم تجد طريقها إلى التسوية بسبب قضية الصحراء، وحدودها مع ليبيا والصحراء مفتوحة على احتمالات الاستهداف الأمني، وحدودها الوحيدة المفتوحة مع تونس.
المعضلة، أن الجهة التي تلتمسها الجزائر لحمايتها ودعمها، حسب تصريح الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، لا يتصور أي دعم من جهتها إن لم يكن ذلك مشروطا بدعم لوجستي جزائري، يضمن نفوذا أوسع لروسيا في منطقة الساحل جنوب الصحراء، بحيث تصبح الجزائر بوابة روسيا الاستراتيجية نحو إفريقيا، وهو ما يشكل بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا خطا أحمر لا يمكن الاقتراب منه.
هذه الإكراهات المعقدة التي تضيق مساحة المناورة جزائريا، وتضيق أفق النظرة الاستراتيجية لإدارة العلاقات الخارجية، تجعل القرار الخارجي محكوما بكثير من التحفظ والحذر، وتدفع مختلف المؤسسات، وبشكل خاص العسكرية والأمنية والاستخباراتية، إلى التدخل، وتجعل من الخطورة، أن يتم الاستفراد بالقرار الخارجي، أو محاولة الهيمنة عليه، دون وجود تنسيق كامل بين مؤسسات الدولة.
لقد كشف خبر النهار هذه المعضلة، وكشف معها، مخاطر أن يقع التنسيق بين مؤسسات الدولة كجواب اضطراري تسبب فيه لجوء بعض المتدخلين إلى الاستفراد بالقرار الخارجي دون إشراك بقية المتدخلين، فمن الواضح أن جهة ما داخل مؤسسات الدولة الجزائرية، سارعت من منطلق رؤية تتبناها في إدارة سياسة البلاد الخارجية، إلى تسريب الخبر، إلى مؤسسة إعلامية، وأن هذه المؤسسة، لم تجد بدا من نشر الخبر، بسبب ثقتها بأن الأمر يتعلق بإرادة الدولة، لكن، تم في الأخير، تعليق الشماعة على الإعلام بإقالة وزيره، بعد أن وقع التنسيق المتأخر بين مؤسسات الدولة، أو تغلب أحد المتدخلين (من بين مؤسسات الدولة) ففرض رؤيته على الآخرين.