سعيدة .. بين الفنتازيا والواقع : رحلة فنية استثنائية في المسرح الوثائقي المغربي
لأول مرة في المغرب، يتحلى أبو الفنون بأسلوب فني جديد يرمي إلى تدشين انطلاق المسرح الوثائقي بالمغرب، حيث تألّق مسرح باحنيني بالرباط يومه الثلاثاء 23 يناير، بالعرض الأول لمسرحية ” L’intermondes au-delà des Gnaouas “، وهي مستوحاة من قصة حقيقية لامرأة عانت كثيرا من موروث شعبي ثقيل ورثته عن أمها، والتي كانت بدورها متأثرة ومتوّغلة في عمق طقوس ڭناوية.
يروي العرض قصة سعيدة، بطلة المسرحية، كيف تأثّرت حياتها الاجتماعية وحالتها النفسيّة بهذا التراث، وكيف أنها لا تزال بين أظهرنا ليومنا هذا صامدة ترتجي الفرج.
المسرحية تسلّط الضوء على فن ڭناوة باعتباره تراثا فنيا لاماديا، وتوظّف الطابع الوثائقي بأسلوب فني استعراضي، يمزج بين السرد والموسيقى والتشخيص المسرحي، حاولت من خلاله المخرجة الشابة الصاعدة بثينة المجاهد أخذ الجمهور في رحلة مليئة بالمشاعر المسترسلة في تناغم مع أحداث القصة، ومحاولة سحب الجمهور إلى عالم يجمع بين الفولكلور والواقع، وتقديم رؤية عميقة للتحديات الاجتماعية والنفسية.
وقد تم توظيف السرد والفلكلور الشعبي الڭناوي، والألوان بمختلف معانيها في سياقها الڭناوي، لجعل كل لحظة تنبض بالحياة والمعنى، مع تنسيم المسرحية ببهارات درامية وكوميدية لعبت بها على أوتار مشاعر ومخيّلة الجمهور، بإيقاع دينامي يشد انتباه المتفرج إلى تفاصيل كل لحظة، ويعكس التناقضات الثقافية والنفسية التي يمكن أن يواجهها الفرد في مجتمع يحمل مثل هذا النوع من التراث.
وفي تصريح لبثينة متحدثة عن بطلة المسرحية قالت: “سعيدة امرأة شجاعة رفضت أن تكون مجرد تكرار لحياة أمّها، وهذا كلّفها الكثير. لقد وجدت نفسها مخيّرة بين نارين، في وسوسة داخلية ملحّة لا تتوقف، تجبرها على الاختيار بين أن تتبع خطى أمّها وتخوض غمار تلك الطقوس، أو أن تختار الموت. فاختارت مقاومة كل تلك الوساوس لفترة طويلة من حياتها، لكنّها كانت تنهار بين الفينة والأخرى، وتستسلم لخيار الموت بدل الخضوع للخيار الآخر.
وهنا يعيش المتفرج مع البطلة تلك المحاولات لوضع حد لحياتها بطرق مختلفة تعكس واقعا صعبا، وتحرّك عقل المشاهد إلى التفكير في حل لهذا الحال، وعواطفه أيضا نحو حالة سعيدة بعد أن فشلت كل الحلول في إخراجها من محنتها، بما في ذلك العلاج النفسي والمكوث في مستشفى الأمراض العقلية”.
وفي مشهد سريالي مبدع، نرى سعيدة وهي هائمة في الطريق تجد روحها قد قادتها إلى “زاوية” للحضرة الڭناوية، وتنغمس وسط الحلقة وتبدأ بـ “الجدبة” بكل كيانها، إلى أن تسمع “ترجاي مولاك” في كلمة لمْعلم ڭناوية.
وتابعت بثينة: “قمت بتضمين أحداث مليئة بمعاني خفية تستدعي ملكة التأويل لدى المتلقي للوصول إلى ما وراء المشهد، مما قد يخرج معه كل متفرّج بقراءة مختلفة عن الآخر. خاصة بعد لقاء سعيدة بالمْعلم الڭناوي بالزاوية، وتساؤلات حول لماذا طلب منها ذبح طاووس؟ وما سر تلك الدائرة المحيطة بالبطلة؟ وأسرار أخرى مثيرة، أتركها للجمهور ليكتشفها بنفسه دون حرق لأحداث المسرحية”.
إنها ثمرة بحث أكاديمي، تضيف بثينة المجاهد، “بحث تخرجي من المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، ونتاج مجهود بدأ منذ عام 2019، بإنتاج شخصي تطلب مني الكثير من الجهد من كافة النواحي، ليتوّج اليوم بتقديم هذه المسرحية. وأنا فخورة الآن وأنا أتابع ردود أفعال الجمهور، وتفاعلهم مع كل مشهد، واستمتاعهم بفصول وفواصل المسرحية. وجد فرحة وأنا أتلقى الأراء الإيجابية حول هذا النوع الجديد من المسارح، ومتحمسون جميعا إلى القيام بجولة عبر ربوع الممكلة ليستمتع بقية الجمهور المغربي بهذه القطعة. وأشكر كل من ساهم في إنجاح هذا العمل من قريب أو بعيد”.
ومن جهتها أعربت (سلمى.ف)، إحدى الحاضرات في المسرحية عن إعجابها الشديد بالعرض قائلة: “أعجبتني تلك الطاقة التي كانت على الخشبة، وتأثّرت حقا بالقصة. لقد كانت قصة مؤثّرة للغاية، والأداء كان مذهلًا، ولا أخفيكم أنه في بعض المشاهد اقشعرّ بدني مما رأيت، وأكثر ما صدمني هو ظهور صاحبة القصة الحقيقيّة أمامنا في الأخير”.
ويُذكر أن المسرحية من فكرة وسينوغرافيا وإخراج: بثينة المجاهد. دراماتورجيا: رشيد منتصر. كتابة النص: حفصة الخال وطه الكبيري. الإضاءة: ياسين زاوي. الصوت والمابينغ: يوسف المكاوي. موسيقى: المعلم عبد القادر امليل، وصابر المنوالي، وربيع عباس. التوثيق والإعلان: مصطفى آيت سي حمو. تشخيص كل من الفنان: المعلم عبد القادر امليل، وزينب الناجم، وسناء بحاج، محمد شاهير، وأسامة العروسي، ومحمد الغمام.