موسم هجرة طيور الفينيق إلى الشمال أو موسم الهجرة السرية المعلن عنها
15 شتنبر 2024، يوم سيدخل تاريخ المغرب الحديث من بابه الضيق، فهو يوم ليس كباقي أيام السنة. إنه اليوم الذي قرر (مع تحفظ، لأن القرار اتخذته أشخاص مجهولة) فيه مئات، بل آلاف الشباب المغاربة القيام بهجرة جماعية عبر ركوب أمواج البحر الأبيض سباحة طمعا في الوصول أو لا إلى مديني سبتة أو مليلية المحتلتين.
ستتذكر الأجيال القادمة هذا اليوم بفرح أو ربما بدموع، فالبعض سيترك له هذا التاريخ فرح صغير بعبور أحد الأقارب لخط الوصول أو بعبارة أدق عبور أسلاك الحدود الشائكة لجزء أوروبا القابع في شمال المغرب، والبعض الآخر سيشكل له ذكرى هذا التاريخ غصة بسبب فقدان أحد الأقارب غرقا في عرض البحر المتوسط دون أن تتحقق أمنيته ببلوغ العالم الجديد/القديم.
لكن ما الجديد في الهروب الجماعي الأكبر الذي روج له في حملة رقمية عبر منصات التواصل الاجتماعي من أجل أول هجرة سرية معلن عنها في التاريخ ؟ ومن حرك هذه الفكرة وجعل من عملية طالما كانت سرية إلى قرار جماعي للهجرة ؟ هل هو فعل مدبر للتشويش على العلاقات المغربية الاسبانية التي عرفت تحسنا في السنوات الأخيرة ؟
طبعا عند الحديث عن الهجرة السرية أو الهجرة غير الشرعية كظاهرة اجتماعية (Fait social) فهي ليست بالحدث الجديد على ثقافتنا الشعبية المغربية، فدائما كنا نسمع عن شباب في أحيائنا خاطروا بحياتهم على مثن “باطرات” تعبر السواحل أو عن طريق الاختباء في شاحنات النقل الدولي المتجهة نحو أوروبا.
أما الجديد في موسم الهجرة الجماعي أو ما أسميته بموسم هجرة طيور الفينيق إلى الشمال، فهو قرار آلاف من الشباب الموت في مياه البحر المتوسط وإعادة الانبعاث فوق تراب سبتة المحتلة أو تراب القارة العجوز، خلافا لطائر الفينيق (الفينيكس) الذي يموت احتراقا قبل الانبعاث من جديد بصحة وقوة أكبر.
الملاحظ في الفيديوهات المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن أكثر من لبى نداء الهجرة الجماعي هم أطفال صغار قرروا ترك حضن الأم والمدرسة والوطن والاتجاه صوب المجهول، بل هناك أشقاء أي أطفال من نفس العائلة قرروا خوض غمار تجربة “دبحة ولا ربحة”، أي الوصول إلى الرف الآخر أو الموت في منتصف الطريق، لكن الغريب أن القرار في بعض الحالات كان بموافقة الوالدين، فمنهم من دفع بفلذات أكبادهم لخوض غمار “الحريك” أملا في مستقبل جميل لأطفالهم، إن هم وصلوا إلى بر الأمان ومعه خروجهم من حالة الفقر التي تعيشها العائلة.
“الحريك” يبقى أخطر قمار عرفه الكون، ففيه لا تقامر بالنقود بل بالروح، أي أنك تصل لدرجة أن حياتك لا قيمة لها وأنك تخاطر بحياتك من أجل مستقبل غير مضمون أصلا. فحتى لو حالفك القدر ووصلت لأوروبا فلا شيء مضمون وربما تلك الوردية التي روجت عن العيش الرغد بين دول القارة العجوز لن تحصل عليه هناك وستعيش ما تبقى من حياتك عبارة عن شخص بدون مأوى (SDF) يعيش على الأكل من الحاويات ومساعدات الكنائس و الجمعيات والدولة.
كيف يعقل أن فتى في 13 أو 14 من العمر وهو مازال في الدراسة أن يتخذ قرار وضع حياته على المحك والاتجاه نحو المجهول وربما لا يجيد حتى السباحة ويريد أن يتسلل إلى سبتة، وعند سؤاله عن أسباب الهجرة اللاشرعية، يجيب “أن الوقت مقودة وما بقا ما يدار في البلاد”. وماذا سينتظر منك مجتمع تطأ أقدامك ترابه وأنت إنسان جاهل، بل وحتى فاشل في دراسته ؟ هل سيعيد التسجيل في الدراسة إن هو نجا من أن يكون وجبة للأسماك أو فقط قضاء ما تبقى من سنوات مراهقته قبل الرشد في حضن الجمعيات التي تعتني بالقاصرين قبل التحول إلى عالم المخدرات؟
طبعا أوروبا ليس المنقذ والعالم الذي يمكن أن يحول بين عشية وضحاها الفقير إلى غني، وهذا لا يعني أن هناك فقط يمكن أن تعيش بكرامة، فالكرامة لا تباع ولا تشترى، وفي أوروبا لا يعني أنك لا يمكن أن تموت جوعا أو بسبب شدة البرودة وأنت تنام في العراء تحث النجوم بين مختلف قناطر باريس. فحتى في أوروبا هناك أناس يموتوا جوعا وبردا.
خلافا لبلدنا، ما سمعت عن شخص مات قهرا أو جوعا وأنا لا أقول أنا المغرب جنة فوق الأرض. صحيح هناك مشاكل في الصحة والتعليم والقضاء وغير ذلك من القطاعات العمومية، وهناك رشوة وفساد في بعض القطاعات، لكن وجب الاعتراف أن القاضي الفاسد والمحامي الفاسد والشرطي الفاسد هم مغاربة مثلي ومثلك يحملون نفس البطاقة الوطنية ونفس جواز السفر، كما أن الراشي والمرتشي والفاسد هم مغاربة مثلنا ونحن من نغذي هذه الآفات السيئة التي تعيق التنمية في بلدنا، ولا يمكن أن نلوم الآخرين عن واقعنا.
هنا عمل وأوراش كبرى أعطيت انطلاقتها للسير بهذا البلد إلى الأمام من أجل مستقبل أفضل ولا يمكن أن نلوم أحد على فشلنا أو نحمل المسؤولية لأحد بسبب تأخرها. المغرب محتاج لرأس مال بشري له إضافة ايجابية، محتاج إلى أشخاص لهم أمل في المستقبل، ممن لا يحلمون فقط أن تتحسن أمورهم، بل ممن يساهمون في بناء هذا المستقبل من أجل مغرب أفضل.