بعد مصرع إبراهيم رئيسي، إسماعيل هنية وحسن نصر الله… ألم يحن وقت رمية المنشفة في عدة مناطق من الشرق الأوسط ؟
حتى قبل نهاية السنة الجارية 2024، شهد الشرق الأوسط عدة أحداث دامية بعيدا عن موت المواطنين في كل من فلسطين، اليمن أو حتى إسرائيل نفسها. لعل أكبر ما ميز هذه السنة هو مصرع كل من الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، في شهر ماي الماضي، بعد تحطم المروحية التي كان على متنها، واغتيال قائد حركة حماس، إسماعيل هنية، يوم 31 يوليوز المنصرم، جاء الدور على الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله للالتحاق بكوكبة المفارقين للحياة على هذه الأرض.
تميزت السنة الجارية بنهاية عدة أشخاص كان لهم وزنهم فيما يصطلح عليه بـ “محور مقاومة العدو الصهيوني”، عدة قادة في حماس، إبادة قادة في حزب الله، ومصرع رئيس دولة يدعم الحركتين في سماء الشرق الأوسط. لن أجيب هنا عن الأسئلة حول كيف تم الوصول إلى أماكن إقامة كل من هنية ونصر الله، ومعرفة تحركات رئيسي ؟ وهل هو تفوق لمخابرات الدولة المسؤولة عن نهاية هؤلاء القادة، أم هل هو خيانة من محيط الذين تم تصفيتهم ؟ أم هي أشياء أخرى تغيب عنا كوننا مجرد متتبعين للأخبار من بعيد ؟
عرفت السنة الجارية تحركات سريعة فوق رقعة شطرنج الشرق الأوسط، ولعل الافتتاحية التي قامت بها حركة حماس في 7 أكتوبر 2023، كانت ربما خاطئة، أو كانت كمن قام بافتتاحية “Gambit Dame” في لعبة الشطرنج (فتح المجال أمام كل من الملكة والفيل) لكن دون تخطيط للحركة القادمة أو أن الخصم فاجئه في الرد وأظهر أنه مستعد لكل الافتتاحيات الممكنة، بل مستعد للفوز بالمواجهة، حتى وإن كان يلعب مباريات أخرى في نفس الوقت ولكن على طاولات مختلفة.
السؤال لماذا كان التشبيه لضربة السابع من أكتوبر بافتتاحية “Gambit Dame”، لأن خبراء الشطرنج يعتبرونها واحدة من أقوى افتتاحيات اللعبة، لكنها لا تكفي للفوز إن لم يليها تخطيط منضبط لما تبقى من اللعبة، وهكذا كان ضربة 7 أكتوبر، حركة انتقائية بدون متابعة، في الوقت الذي اعتقد فيه الكثير أن حماس إلى جانب حزب الله سيحققان انتصارا كبيرا.
إن كنا نعرف أن عبارة “Jeter l’éponge” (رمي المنشفة) في فن الملاكمة تعني الانسحاب من إكمال المبارزة، بإذن من المدرب خوفا على ملاكمه من تكسر عظامه والإقرار بالهزيمة مع حفظ ماء الوجه، فإن إمكانية إطاحة الملك في رقعة الشطرنج من اللاعب نفسه تعني اعترافه بهزيمته وقوة الخصم دون الحاجة لإكمال المقابلة وتكبد مزيدا من الذل.
ألم يحن الوقت لعدة قوى في الشرق الأوسط إلى مرحلة اللجوء إلى التراجع الاستراتيجي أو الانسحاب التكتيكي لأن الخصم قوي، أو بعبارة أوضح إلى مرحلة “Jeter l’éponge” في زمن أصبح الضغط على زر يخلف آلاف الضحايا ؟ إلى متى مازال عدد من القادة العرب وغيرهم عوض الاستسلام، يتمسكون بالعنتريات بانتحارهم وموت شعوبهم وانهيار اقتصاد بلدانهم ؟
إن كان الانسحاب التكتيكي يسمح للقوة العسكرية بالحفاظ على مواردها وقوتها البشرية ووقف الخسائر غير الضرورية والحفاظ على الذخيرة ويوفر فرصة لإعادة تقييم المواقف أو حتى إجراء التعديلات اللازمة على استراتيجيتها، وصياغة خطة هجوم جديدة تستغل أي نقاط ضعف الخصم، فإن قرار رمي المنشفة في حالات عديدة يعتبر أحسن حل للحفاظ على الأرواح البشرية، ولنا في التاريخ الحديث عدة أمثلة على قرارات الاستسلام والخروج من الحرب بأقل الخسائر، بل مع صيرورة الزمن تبين أنها كانت انتصارات عظيمة.
لعل أكبر عملية استسلام في العصر الحالي كانت عندما أعلن الإمبراطور الياباني، هيروهيتو، يوم 15 غشت 1945، استسلام بلاده غير المشروط مباشرة على المذياع، وذلك بعد الوطأة الثقيلة للقنبلتين النوويتين في هيروشيما وناغازاكي إبان الحرب العالمية الثانية.
اليوم يمكن اعتبار استسلام الإمبراطور هيروهيتو أنه كان انتصارا، ويكفي أن تنظر إلى مكانة اليابان الحالية ومدى تطور البلد على كل الأصعدة. فحاليا، أي في عام 2024، اقتصاد اليابان يحتل المرتبة الرابعة عالميا بقيمة تصل إلى 4.11 تريليون دولار، والتريليون هو رقم 1 بالإضافة إلى 18 صفر على اليمين (كما هو متعارف عليه).
يروي التاريخ أيضا يوم استسلم 80 ألف جندي أمريكي مقابل 4 آلاف جندي ياباني في الفلبين أثناء الحرب العالمية الثانية عام 1942. بعد ذلك، اقتادهم اليابانيون لمعسكرات الاعتقال سيرا على الأقدام لمسافة 90 كلم ومات خلال المشي نحو 6 آلاف جندي أمريكي، لكن عاش الآخرون.
هناك أيضا إعلان الجيش الجمهوري الأيرلندي، في 2005، ترك السلاح والانخراط في المسار السياسي الديمقراطي من أجل توحيد أيرلندا بعد سنوات من الصراع، وهناك أمثلة كثيرة لا يسعنا الوقت للوقوف عند كل واحدة منها. الأكيد أنه في حالات عديدة يجب تجنب مثل خطاب إرنستو تشي جيفارا، في 11 دجنبر 1964، داخل مقر الأمم المتحدة عندما قال جملته الشهيرة “Patria o Moarte” أي “الوطن أو الموت”، فاليوم أصبحت مشاهد الموت أكثر من الحصول على أوطان، ويبقى رمي المنشفة قرارا صائبا لمواصلة للحياة.