زاوية الرأيمنوعات

الكل يُحبّ المخزن .. سليمان الريسوني نموذجا !

بغض النظر عن كل العنتريات والأباطيل والمغالطات (المردود عليها) التي رَوّجها سليمان الريسوني في آخر خروج إعلامي له، كضيف على بودكاست يحمل إسم “بصيغة أخرى” يبث على قناة “مثلث” في منصة “يوتيوب”… إلا أنه لم يستطع إخفاء عشقٍ غريب وعجيب يَتَمَلَّكُه كما يَتَمَلَّكُ غيره من مدعي الرأي الحر والاستقلالية أو حتى “المعارضة” أو من يسمون أنفسهم بـ “الأصوات المنتقدة” أو “الممانعة”… إنه عشق المخزن.

عشق غريب وعجيب، لكنه ليس بجديد… فلطالما عشنا وعايشنا نماذج واقعية في المغرب على مر التاريخ، لأشخاص يريدون الجمع بين حلاوة السلطة وشرف المعارضة… أشخاص تجدهم طوال الوقت منهمكين ومنهكين بمهاجمة الدولة ومؤسساتها، وخاصة الدولة العميقة أو “المخزن”، لكنهم في قرارة أنفسهم يتطلعون إلى أن يصبحوا جزءً من تلك المنظومة أو على الأقل مقربين منها ومستفيدين من امتيازاتها.

في البودكاست المذكور، قال سليمان الريسوني بأنه كان يتوقع أن تُعقد معه جلسة حوار مع جهة رسمية بعد استفادته من العفو الملكي، للتفاوض معه حول مستقبله المهني وربما لضمان تحوله إلى صوت أقل حدة في انتقاداته أو حتى ابتعاده عن ممارسة “المعارضة” بشكل كامل خارج المغرب، كما حاول أن يوحي بذلك أو  بالأحرى أن يدفع في هذا الاتجاه بالتودد بشكل ضمني إلى الجهة التي كان (ولازال) ينتظر أن تفتح معه قناة تواصل، مع إشهاره بنبرة “ابتزازية” نية ممارسة “شبه معارضة” من الخارج.

تصريحات سليمان الريسوني هذه، إن دلت على شيء إنما تدل على أن هذا الأخير وعلى غرار من على شاكلته أو من عاش تجربة مماثلة، يعتقدون أنهم قادرون على مساومة الدولة أو “المخزن” وأن العفو عنهم يشكل حصانة معينة أو يعني إعلان عن رغبة جهات ما في التفاوض معهم وكسب ودهم.

في الواقع، هذا التصريح يكشف عن ظاهرة معقدة ومتكررة في المشهد السياسي المغربي: التناقض بين الخطاب المعلن والسلوك الضمني. فبينما يعمد البعض إلى مهاجمة “المخزن”، نجدهم في لحظة ما يبدون ميولًا للتقرب منه، بل وربما يتطلعون إلى الحصول على اعتراف ضمني أو امتيازات منه.

المثل الدارج “يخ منو وعيني فيه” يلخص بدقة هذه العلاقة الملتبسة. فالعديد من هؤلاء الذين يقضون حياتهم المهنية في نقد الدولة ومؤسساتها، يتطلعون في واقع الأمر إلى الاعتراف والقبول. ويظهر هذا التناقض في لحظات مفصلية، مثلما حدث مع الريسوني الذي لم يُخفِ رغبته في أن تكون هناك فرصة للتفاوض أو “الحوار” مع المخزن بعد العفو عنه.


هذا السلوك ليس استثناءً. بل يكاد يكون قاعدة غير مكتوبة بين ما يُسمى بـ”الأصوات الحرة” أو “المعارضين”. إنهم، سواء بوعي أو دون وعي، يدركون أن المخزن هو الفاعل الأساسي الذي لا يمكن تجاوزه في المعادلة السياسية المغربية. وبالتالي، تجدهم يخوضون معركة مزدوجة: معركة لإثبات أنفسهم كمنتقدين ومعركة خفية لكسب القبول أو الاستفادة من القرب من السلطة.


النقد الموجه إلى المخزن غالبًا ما يتم تقديمه بوصفه “التزامًا بالمبادئ” أو “دفاعًا عن حقوق المواطن”، لكن هذا الخطاب يحمل في طياته في غالب الأحيان رغبة مبطنة في إثبات الذات أمام النظام القائم. وهؤلاء يستخدمون النقد كوسيلة لجذب الانتباه أو لضمان مكانة خاصة داخل المشهد السياسي.


فعندما يتحدث الريسوني عن توقعه لحوار أو تفاوض بعد العفو، فهو يعكس جانبًا من هذا المنطق. ويبدو وكأنه يقول ضمنيًا: “لقد انتقدت، لكنني مستعد للتفاوض؛ لقد هاجمت، لكنني لا أمانع في الاقتراب.” هذه الرغبة في الاعتراف ليست جديدة أو مفاجئة. إنها جزء من الثقافة السياسية التي تطبع علاقة الأفراد بالمخزن.


الحقيقة التي يمكن استخلاصها من هذه المواقف هي أن المخزن، رغم كونه هدفًا دائمًا للنقد، يظل الجهة الأكثر تأثيرًا وجذبًا. الجميع يدرك أن السلطة الحقيقية موجودة هناك، وأن البقاء في دائرة المعارضة دون أي شكل من أشكال التفاوض يعني غالبًا البقاء على الهامش. لذلك، نجد أن حتى أشد الأصوات انتقادًا لا تستطيع أن تخفي رغبتها في التواصل أو الاعتراف، ولو بطريقة غير مباشرة.
ما قاله سليمان الريسوني ليس مجرد تصريح عابر، بل هو انعكاس لظاهرة أعمق في السياسة المغربية. المخزن، بقدر ما يُهاجَم، يبقى محور الجذب الأساسي… وفي النهاية، يبدو أن الكل يحب المخزن، أو على الأقل، يتمنى أن ينال رضاه، سواء صرح بذلك أم أخفاه وراء شعارات النقد والمعارضة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى