جزائر “الذل” بين الأمم
منذ نيل استقلالها سنة 1962، مرت الجزائر بتقلبات عديدة جعلت من البلاد أرضا غير ثابتة سواء سياسيا أو مجتمعيا أو اقتصاديا، فبين جحيم الانقلابات و ويلات الأزمات الاقتصادية و الحروب الأهلية و حتى الحراكات الشعبية، ظلت الجزائر تدور في دوامة التحدي و البحث عن مستقر لها داخل المنظومة العالمية.
لكن ما ميز الجزائر في السنوات الأخيرة، وبالضبط منذ تولي الجنرالات سدة الحكم بعد التدخل في نتائج الانتخابات بداية تسعينيات القرن الماضي، التراجع الكبير لمكانتها على الساحة الدولية و بروز حالة من “التشرذم” السياسي و الدبلوماسي في اختلاق الأزمات مع جيرانه ومحيطه الإقليمي مع ضبابية في اتخاذ القرارات التي تواكب مصالحها في ظل عالم يشهد تحولات مستمرة و بصورة متواترة.
من جهة ثانية، وبحكم تحالفه مع المعسكر الشرقي، لعب النظام الحاكم في الجارة الشرقية دور “الكومبارس” لصالح القوى الاشتراكية إبان الحرب الباردة، جاعلا من قضية الصحراء المغربية بمثابة المحرك الرئيسي للمواقف المعادية للمملكة التي مالت إلى نهج سياسة رأسمالية قائمة على اقتصاد السوق وهو ما يبين بعد النظر الذي ميزها عن جارتها.
و حتى بعد نهاية زمن المعسكرين (شرقي/غربي) بانهيار جدار برلين و الدخول في مرحلة جديدة سميت بـ “القطبية الواحدة”، لم تتوقف الجزائر عن تبني أطروحات اشتراكية بائدة، وذلك بالوقوف وراء العديد من القرارات الداعمة لجبهة البوليساريو الانفصالية تحت مبرر “تقرير مصير الشعوب”، مما أسهم في إطالة أمد هذه القضية لا غير، وهو ما يعكس عجزها عن تحقيق أي تقدم في هذا الملف.
و على الصعيد الداخلي، تعيش الجزائر اليوم حالة من “الركود” السياسي، حيث تتقلب أزماتها الداخلية بين التضخم، البطالة المرتفعة، وتراجع مستوى الخدمات العامة، بل إن الأزمة الاقتصادية التي تواجهها، نتيجة للتقلبات العالمية في أسعار النفط والغاز، زادت من الضغط على الطبقات الشعبية التي باتت تشعر بأنها تدفع ثمنًا باهظًا جراء سياسات لا تعكس مصالحهم و هو ما عجّل بظهور بعض الحركات الاحتجاجية التي تحرض الجزائريين للهبوط للشارع مثل هاشتاغ “مانيش راضي“.
النظام الجزائري لم يقتصر على افتعال الاضطرابات مع المغرب فقط، بل أصبح مشهورا إقليميًا بنهج سياسة “التشويش” مع جيرانه المتعددين، ففي ليبيا مثلا، حيث النزاع و التوتر لا يزال قائما بين الفصائل المختلفة، تلقت عصابة العسكر تهديدات جدية من طرف قائد الجيش الوطني الليبي، خليفة حفتر، والذي توغلت وحداته العسكرية إلى الحدود الجزائرية لما اعتبره سابقا استغلال الجزائر للأوضاع الأمنية في ليبيا.
أما في مالي، فإن الوضع أخطر، حيث تم توجيه أصابع الاتهام للجزائر بدعم و تسليح “الجماعات الإرهابية” و التدخل في الشؤون المحلية، كما استنكرت باماكو التقارب الكبير بين جارتها و التنظيمات المتطرفة، وهو ما اعتبره عدد من المحللين محاولة جزائرية لخلق “بوليساريو” جديدة في المنطقة.
الجزائر دخلت في أزمة كذلك مع النيجر، حيث اضطرت هذه الأخيرة للاحتجاج على السلطات الجزائرية على ما وصفته بالطريقة غير اللائقة التي تعاملت بها مع مواطنيها أثناء عملية ترحيلهم، حيث أجبروا على العودة إلى بلادهم عبر الحدود الصحراوية نهارا دون توفير المستلزمات الضرورية ودون تنسيق مع السلطات النيجيرية.
وفيما يتعلق بتونس، فقد تغلغلت العصابة العسكرية أيما تغلغل، حتى صارت “أرض الزيتون” تسمى بـ “المقاطعة الجزائرية” بالنظر لتسبيحها بحمد الجزائر لدرجة أن وزير الخارجية التونسي، علي النفطي، و في لقاء جمعه بالرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، وصف خلاصة هذه المحادثة الثنائية بـ “التوجيهات” و هو ما يبين درجة التدخل التي وصلها حكام قصر المرادية في الشأن التونسي.
موريتانيا بدورها لم تسلم من الشرور الجزائرية، حيث تسعى عصابة العسكر إلى استمالة بلد “المليون شاعر” للانضمام إلى مشاريعها التخريبية في المنطقة المغاربية، و بالخصوص إخراجها من “حيادها الإيجابي” فيما يتعلق بقضية الصحراء المغربية، زيادة على محاولاتها الحثيثة إقناع موريتانيا بالانضمام إلى تكتل مغاربي يستثني المملكة المغربية.
و بالعودة إلى ملف الصحراء المغربية، و مع توالي الانتصارات الدبلوماسية التي يجنيها المغرب بزيادة عدد الدول المناصرة للحكم الذاتي أو الساحبة لاعترافها بالجبهة الانفصالية، وجدت الجزائر نفسها في مواقف محرجة لعلمها أن ورقة البوليساريو التي راهنت عليها لأزيد من نصف قرن شارفت على الاحتراق، كما انتهى بها المطاف في صراعات مباشرة مع قوى عظمى أو أعضاء في مجلس الأمن (فرنسا، إسبانيا، الولايات المتحدة)، لا لشيء سوى أن هذه الدول عبرت عن موقفها الواضح في هذا الملف.
الجزائر في الوقت الراهن بلغت مستويات غير مسبوقة من الذل و الهوان، بسبب النظرة الدونية التي أصبح المنتظم الدولي يرى بها بلد “المليون شهيد” معتبرا إياه مجرد “صبي” وجب تأديبه، إذ يظهر هذا الانطباع الهزلي في التعامل مع الجزائر من خلال المواقف السياسية والدبلوماسية المتعالية التي تُتخذ ضدها في العديد من الملفات آخرها ما سمي بـ “أزمة المؤثرين ” مع فرنسا وذلك عبر حملة الترحيل و الترحيل المضاد التي اتخذها الطرفان، وهو ما حذا بباريس إلى اتهام الجزائر بـ “التصعيد”، واعدة إياها على لسان وزير داخليتها برد الصاع صاعين إن اقتضى الحال.
في الختام، فإن الجزائر التي أراد رئيسها إقناعنا ذات يوم أنها “قوة إقليمية”، أصبحت اليوم مجرد “عُصارة” من الأخطاء الدبلوماسية والسياسية، مما يعكس فشلاً ذريعًا في إدارة أزماتها الداخلية و لحاق مجريات الأحداث في المنطقة، كما أن استمرارها في ممارسات لا تحقق أي نتائج ملموسة لن يكون سوى خطوة إضافية في مسار الضياع الذي أصبحت تعيشه هذه الدولة و نظامها العسكري.