افتتاحية

كهرباء إسبانيا و ظلام العدميين

شهدت كل من إسبانيا والبرتغال أمسٍ الاثنين، انقطاعًا كهربائيًا واسع النطاق، امتد تأثيره إلى أجزاء من جنوب فرنسا وبلجيكا وهولندا، مما تسبب في شلل تام لعدد من الخدمات الأساسية، من توقف القطارات وإشارات المرور إلى تعطيل الاتصالات والإنترنت و المستشفيات و خدمات المترو في مدن كبرى مثل مدريد و إشبيلية و فالنسيا، حيث لم تكن هذه الأزمة، التي وصفت بأنها بـ “الغير مسبوقة” في تاريخ الشبكة الكهربائية الأوروبية،  مجرد خلل تقني عابر، بل اختبار حول كفاءة الأنظمة الطاقية في الدول التي تُعد نموذجًا في الإدارة والحداثة كما شكّلت معيار حقيقي للتضامن الإقليمي وقوة العلاقات بين الدول فضلا على أن هذا الحدث أثار تساؤلات جوهرية حول مدى نجاعة البنية التحتية التقليدية في قدرتها على التعامل مع الضغوط المتزايدة في زمن يشهد فيه العالم تحولًا تدريجيًا نحو الاستثمار في الطاقات المتجددة.

و باعتباره جارًا قريبًا و حليفاً استراتيجيًا لدول شبه الجزيرة الإيبيرية و فاعلا محوريا في مشاريع مشتركة أهمها مونديال 2030، ساهم المغرب عبر الربط الكهربائي الذي يصله بإسبانيا، في استعادة التيار الكهربائي في مناطق شمال وجنوب أرض الأندلس و هو ما دفع رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز، لتوجيه عبارات الشكر للمملكة المغربية على تضامنها مؤكدًا أن إعادة تشغيل المولدات الكهربائية لم تكن لتتحقق بهذه السرعة لولا الاعتماد على التوصيل الكهربائي المشترك مع كل من المغرب و فرنسا.

غير أن الملاحظ في هذه الواقعة أن السلطات في كل من إسبانيا والبرتغال تعاملت مع الوضع بكثير من الهدوء والفعالية، حيث عملت على إصلاح الأعطال التقنية بسرعة وكفاءة، لعلمها أن المواطنين لن يركبوا على الوضع أو يحولونه إلى أزمة وطنية شاملة، إذ على الرغم من أن العطل قد أثّر على خدمات أساسية و أحدث ارتباكًا في بعض المرافق، فإن الحكومات في البلدان المعنية بهذا الانقطاع أظهرت حسًّا عاليًا بالمسؤولية، واعتمدت خطابًا شفافًا تجاه مواطنيها، موضّحة ملابسات ما جرى والإجراءات المتخذة لتداركه، مما ساهم في احتواء ردود الفعل العامة وطمأنة الرأي العام.

وعلى عكس ما يحدث بأرضنا السعيدة، لم يخرج مواطنو مدريد أو لشبونة إلى الشوارع احتجاجاً، ولم يرفعوا شعارات تتهم حكوماتهم بالتآمر على الشعب أو التخطيط المسبق لإرباك الحياة العامة و لم  تتحوّل الحادثة إلى مادة لتأجيج الصراعات السياسية أو تأليب الرأي العام عبر منصات التواصل.

و لو كتب لهذه الأزمة أن تطرأ بالمغرب لا قدّر الله، لرأينا شريحة واسعة من العدميين ممن اعتادوا تحميل الدولة كامل المسؤولية عن كل خلل مهما كان طبيعياً أو عرضياً، تتصاعد أصواتهم المشوهة لتوجيه فوهات مدافعهم صوب المؤسسات الوطنية.. سنرى صحفيا تحول حديثاً  إلى “بودكاستر” يسارع لتضخيم هذا المشكل التقني و جعله “حالة طوارئ” و بنبرته الأنثوية كان سيصف الحدث بـ “الجلل”.. و سيخرج علينا “الهداوي” صاحب قناة “بديل” ليخبرنا أن المغرب “والله ما دولة” وسيستضيف في بلاطو موقعه البئيس فوجاً من “التريسيانات” ليخبروه أننا حقاً “مشينا فيها”.. وسيتبجح علينا أتعس تعساء كندا  بـ “باسبوره” الأزرق ساعيا لإغاظتنا تحت شعار “تحياتي للشعب المعتقل وسط الظلام”..كنا سنشاهد “فاشل” العدلاويين و هو يحمّل مسؤولية العتمة التي ضربت ربوع البلاد للتطبيع مع إسرائيل.. و سيطلب “متغالي” الحقوقيين اللجوء في تندوف خوفا من الظلام  و ليعرف أيضا من هم “العطاشة” الواقعيون و سيردنا الخبر طبعا من شخص لا ينفطر”فؤاده” حين نشره الإشاعات و الترويج لها.. و سوف لن نشعر بالغرابة حينها لو حمّل “أهبل” إسبانيا المسؤولية للمؤسسة الأمنية في شخص مديرها عبد اللطيف حموشي.

إن مشكلة العدميين لا تكمن في آرائهم فقط، بل في المنهج الذي يتبعونه و هو منهج الانتقاء والتضخيم والسخرية المدروسة. لا يعترفون بالتحسن ولا يرصدون التحولات ولا يميزون بين تدهور عارض وبنية تالفة.. فكل انقطاع مؤقت في شبكات الماء أو الكهرباء، و كل تأخر في مواعيد القطارات، و كل خلل بسيط في البنية الصحية أو التعليمية، هو بالنسبة لهم دليل نهائي على الانهيار الشامل للدولة. إلا أن الكارثة الكبرى أنهم لا يتوقفون عند حدود النقد و عدم تقديم حلول أو مشاريع بديلة، بل يحاولون ترسيخ هذا الشعور لدى الجميع، خاصة فئة الشباب، بحيث يتم إنتاج قناعة جماعية أن لا أمل في الإصلاح، ولا جدوى من المحاولة. وأن الأفق مليء بالسواد.

هذه النزعة العدَمية وجدت في الفضاء الرقمي للأسف تربة خصبة حيث يزدهر خطاب التشكيك، وتُروج مقاطع الفيديو والمقالات التي تُحمّل المغرب كل شرور العالم، من البطالة إلى التغير المناخي.. تنتشر فيه الإشاعات بسهولة، وتُضخّم الأخطاء، وتُزوّر السياقات، و هو ما أفرز حالة من التوجس المزمن لدى فئات واسعة من المواطنين، حتى أصبح الناس يطعنون في كل شيء : في الإحصائيات الرسمية، في جدوى الانتخابات، في نوايا المبادرات الحكومية، بل حتى في الأخبار الجيدة.

و لأنه اكتسب مناعة ضد الخطاب العبثي و المحبط و التشاؤمي، فقد أثبت المغرب إبان أزمة انقطاع الكهرباء هاته أنه دولة قادرة على لعب دور محوري في استقرار المنطقة من خلال استثماراته في الطاقة المتجددة، وبنيته التحتية المتقدمة، وعلاقاته الدبلوماسية القوية الشيء الذي يمنحه موقعًا متقدمًا في التوازنات الجيوسياسية، كما أن هذا التماسك و الرزانة التي يتميز بها في ظل أجواء زاخرة بالسلبية و التشويش و التهويل، يؤكد يقينا أن المغرب لم يعد سهل الاختراق وأنه شعلة نور أمام دجى التيئيس و ظلام العدمية.

مشاهدة المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى