العدل والإحسان بين معاكسة الدولة و التحالف مع الشيطان

صادفت الدولة المغربية عبر تاريخها بروز عدد من الأصوات الخارجة عن النسق و التي تتجسد سواء في جماعات إسلامية متشددة أو تنظيمات نقابية راديكالية أو حتى شخصيات منفردة، اتخذت من المعارضة منهجًا دائمًا يستهدف الدولة في حد ذاتها، كما يغلب على خطابها طابع النقد من أجل النقد دون تقديم بدائل واقعية التي من شأنها ترسيخ روح البناء أو الحوار المسؤول.
هذه الأصوات، التي تسبح دائما عكس التيار أحيانا بدافع أيديولوجي وأحيانًا أخرى بدافع شخصي، تعرقل مسار الإصلاح وتغذي الشك في المؤسسات، مما يزيد من تعقيد المشهد السياسي والاجتماعي ويضع الدولة في مواجهة مستمرة بين احترام حرية التعبير و بين حماية استقرارها ووحدة نسيجها الوطني.
و لتقريب الصورة أكثر، سنتطرق لمثال جماعة “العدل والإحسان” و التي تأسست سنة 1987 على يد موظف سابق بوزارة التربية الوطنية اسمه عبد السلام ياسين، حينما نصّب نفسه مرشداً عاما لهذه الجماعة المستحدثة كما اهتدى إلى خلطة عجيبة تجمع بين الخطاب الديني و معارضة السلطة و البعد الصوفي و الروحي للعمل على إقناع مريديه بالانضمام إلى تيار زعم أنه دعوي تجديدي.
الملاحظ أنه منذ اندلاع أحداث السابع من أكتوبر، انخرطت جماعة العدل والإحسان في حملة ممنهجة تستهدف الدولة المغربية، مدّعية الدفاع عن قضايا الأمة والانتصار للمظلومين، غير أن تناقضاتهم الفادحة كشفت هشاشة خطابهم وازدواجية مواقفهم؛ فقد نادوا الدولة علنًا بالتدخل واتخاذ مواقف حازمة تجاه الشعب الفلسطيني، وما إن استجابت السلطات المغربية بتعليمات ملكية وتحركت بما تقتضيه مصلحة الوطن، حتى صمتوا صمتًا مطبقًا، وعادوا إلى ترديد أسطوانة “التطبيع” وغيرها من الشعارات الجوفاء.
إن سلوك العدل و الإحسان الخبيرة في فن “خلط الأوراق” يُفصح بجلاء حقيقة الدوافع التي تحركهم، والتي تبدو شخصية أكثر من كونها مبدئية أو وطنية، فالدفاع عن القضايا لا يكون بالتحامل على مؤسسات الدولة أو بالمزايدة الخطابية، بل بالمواقف المتزنة والثابتة التي تضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار.
و على الرغم مما عرفته هذه الجماعة من هزات و مطبات و فضائح (مالية و جنسية) لا يسعنا الوقت لذكرها، فقد حافظت على نفس توجهها و هو التصعيد ضد الدولة لا سيما من طرف وجوه صارت مشهورة بالخطاب التشكيكي و التشبع بنظرية المؤامرة و توظيف الدين كوسيلة للطعن في الدولة وزعزعة استقرارها وهو ما يُعدّ منزلقًا خطيرًا يُقوّض أسس التعايش والسلم المجتمعي.
لا يمكن لمن يتتبع خطابات حسن بناجح مثلاً، إلا أن يلحظ تلك النغمة المتكررة في كل خرجاته الإعلامية و المعتمدة على التبخيس من مؤسسات الدولة المغربية، ونزع الشرعية عن كل مبادرة إصلاحية، كأن الوطن لا يُصلح إلا على مقاس الجماعة، ولا يُبنى إلا على أنقاض الدولة.
ما نراه من حسن بناجح لا يعد سوى تكرار لأصداء موقف جماعته المتكلّسة و التي لم تغادر بعد صدمة صراعها التاريخي مع النظام منذ عهد الملك الراحل الحسن الثاني، وكأن الزمن توقف عند لحظة الخصومة هاته.
إن المؤسف في الأمر أن موقف الجماعة لا يقوم على قراءة سياسية مرنة أو على مشروع إصلاحي واضح، بل على أحلام مؤجلَة ومقولات مؤدلَجة. فكلما تحركت الدولة نحو تحسين أوضاع المواطنين أو إطلاق مبادرات اجتماعية، تجد بناجح يهبّ سريعًا للانقضاض على كل حدث.
والأغرب من كل هذا أن الجماعة تعاني من “الأمية السياسية” حينما ترفض مفهوم الديمقراطية جملة وتفصيلاً، بحجة أنها منتوج غربي دخيل، لكنها لا تجد حرجًا في الدعوة إلى “الخلافة الراشدة” أو”الشورى”، كمفاهيم مطلقة لم يُجمع المسلمون أصلًا على معناها ولا على طريقة تنزيلها، و بالتالي فإنها مفارقة كبرى أن تطالب بتطبيق نظام “ديني/ سياسي” غابر، وتُدين كل تجربة سياسية معاصرة بحجة “التغريب”.
لقد تحولت هذه النزعة نحو “الخلافة” إلى ما يشبه الهوس الجماعي لدى أتباع الجماعة، وهو هوس لا يختلف كثيرًا – في جوهره – عن الخطاب الذي تبنّته حركات دينية متطرفة مثل تنظيم داعش أو القاعدة أو بوكو حرام، وحتى جماعة حسن الصباح “الحشاشين” في عصور سابقة، وإن اختلفت اللغة وتباينت الأدوات.
هذه الجماعات المذكورة اعتقدت أن “الحق الإلهي” في الحكم منحصر فيها، وأن الأمة لا تستقيم إلا تحت “راية الخلافة”. وكلها أيضًا كرّست نوعًا من الزعامة الروحية المطلقة التي لا تقبل النقاش، تمامًا كما يفعل أتباع عبد السلام ياسين اليوم وهم يقدّسونه باعتباره “الإمام المرشد” و”الشيخ الملهم”.
إن أكثر ما يثير القلق هو أن هذه الأوهام التي خلّفها ياسين في نفوس مريديه تحولت إلى عقيدة لا تقبل التفكيك، عقيدة تستمد قوتها من تكرار شعارات مثل “العدل”، “الخلافة”، “الشورى”، دون أن تقدم تصورًا واقعيًا لكيفية تدبير الاختلاف أو إدارة شؤون المجتمع المتعدد.. والنتيجة هي إنتاج جيل معزول عن تحولات العصر، يعيش في قوقعة فكرية مغلقة، ويظن أن مستقبل الأمة يُبنى بالحنين إلى الماضي لا بالتعايش مع الحاضر.